الكفاح المسلح ضد الانتداب (1920 - 1928):
شهدت هذه الفترة العديد من الثورات المسلحة التي تفجّرت ضد قوات الانتداب الفرنسي، في مختلف مدن وأرياف سورية، وقد امتازت هذه الثورات بالسمات العامة التالية:
السمات العامة للثورات السورية: تشترك الثورات المسلحة التي قام بها الشعب العربي السوري في مختلف المدن والأرياف ضد قوات الانتداب الفرنسي، بين عامي 1920 و 1928، من حيث الصفات العامة، مع غيرها من أعمال الكفاح المسلح التي قامت بها الشعوب المستعمرة،ولكنها تنفرد ببعض المزايا وهي:
1) الترابط الزمني: إن جميع أعمال الكفاح المسلح التي وقعت في سورية بين عامي 1920 و 1928 تشكل وحدة متكاملة مترابطة الحلقات فبعض الثورات مثل ثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية، وثورة يوسف السعدون في جهات أنطاكية، وثورة إبراهيم هنانو في ريف حلب، وثورة محمود الفاعور في سهل الحولة وثورة الدنادشة في تلكلخ قد قامت في عام 1919 وانتهت عام 1922، في حين أن ثورات أخرى مثل ثورة جبل العرب، وثورة دمشق والغوطتين، وثورة حمص وحماة، وأغلب الثورات السورية الأخرى، قد نشبت في عام 1925 وانتهت أواخر عام 1927، ولكن هذه وتلك، بما في ذلك معركة ميسلون، مترابطة بين بعضها منطقياً وزمنياً وللدلالة على صحة ذلك ما قاله الجنرال أندريا، حاكم دمشق وجبل الدروز عام 1926 في وصف الثورة: «إن بذرة الثورة التي نشبت في جبل الدروز سنة 1925 قد ألقيت بلا شك في دمشق من قبل فيصل وحاشيته».
2) الترابط المكاني: لم تكن الأعمال والثورات المسلحة بين 1920 و1928 متصلة من الناحية الزمانية فقط، بل كانت كذلك متصلة من الناحية المكانية: فثورة الشمال التي قادها إبراهيم هنانو كانت متصلة اتصالاً وثيقاً بثورة القصير في سنجق الاسكندرونة بقيادة المجاهد الشيخ يوسف السعدون من جهة، وبثورة جبل صهيون (منطقة الحفّة) التي قادها المجاهدان عمر ونجيب البيطار من جهة ثانية، وهذه الأخيرة كانت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية، وقد لعب المجاهد هزاع أيوب دور ضابط الاتصال بين هذه الثورة الأخيرة وبين الثورة في المنطقة الشمالية بقيادة إبراهيم هنانو.
ولم تقم ثورة حماة وكذلك ثورة دمشق والغوطتين، إلا بالتنسيق مع القائد العام للثورة السورية الكبرى في جبل العرب، سلطان الأطرش، وقد خففتا من ضغط القوات الفرنسية على ثورة الجبل بشكل ملحوظ، وكذلك فإن ثورة قرى وادي التيم في لبنان كانت متصلة بالثورة الأم في جبل العرب، كما كانت ثورة القلمون وجبل عكار متصلة بثورة حمص وحماة والمنطقة الوسطى، وكانت قيادة الثورات الأخيرة بيد فوزي القاوقجي وسعيد العاص.
3) البعد عن الروح الإقليمية: لقد تجنبت هذه الثورات جميعاً «الروح الإقليمية» وهكذا لم يقتصر نشاط ثورة الشيخ صالح العلي على منطقة الجبال الساحلية فقط، بل مدّت نشاطها إلى الساحل، وشاركت في معركة جسر الشغور، وكذلك كان الحال بالنسبة للثورة في جبل العرب، التي مدت نشاطها المسلح إلى حوران (معركة المسيفرة) وإلى دمشق والغوطتين وإلى وادي التيم في لبنان.
ولم يكن إطلاق صفة «الدرزية DRUZE» على هذه الثورة بدلاً من صفة «السورية SYRIENNE» في أغلب المصادر والمراجع الفرنسية، إلا لبثّ فكرة معينة، وهي أن الثورة كانت لأجل الدروز، أو أن من قام بها كانوا من الدروز.
والحقيقة هي غير ذلك تماماً، فأعمال الكفاح المسلح في منطقة جبل العرب اشترك فيها مجاهدون من المدن السورية جميعاً: فقد شارك فيها مجاهدون من دمشق مثل نسيب البكري ونزيه المؤيد العظم وعبد الرحمن الشهبندر، ومجاهدون من حماة مثل سعيد العاص ومظهر السباعي، ومن اللاذقية كالدكتور أمين رويحة، ومن حلب كالملازم خير الدين اللبابيدي، ومن دير الزور كالمجاهد سرحان أبو تركي ... ولم تكن الثورة في الغوطة وقفاً على الدمشقيين، أو أبناء ريف دمشق، فقد ضمت مجاهدين من شتى المدن السورية أيضاً مثل رمضان شلاش من دير الزور، وعبد القادر مليشو وسعيد الترمانيني من حماة، ومظهر رسلان من حمص، وفؤاد إبراهيم باشا من حلب، كما شاركت عناصر من خارج سورية مع مجاهدي الغوطة مثل فوزي القاوقجي من طرابلس الشام، وسعيد اليماني من اليمن، والأمير عز الدين الجزائري من الجزائر، كما أن نفراً من المغاربة والجزائريين العاملين في الجيش الفرنسي كانوا يتصلون بالثوار السوريين، كلما أمكنهم ذلك ويقدمون لهم معلومات ثمينة بخصوص تحركات القوات الفرنسية المقبلة ضدهم.
وأكبر مثال على سمة «اللا إقليمية» في الثورات السورية هو الذي قدّمه المجاهد الشهيد سعيد العاص، الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني، ثم في الجيش العربي، ثم اشترك في ثورة حمص والمنطقة الوسطى، ثم في ثورة الجبل، فثورة دمشق والغوطتين، ثم في القلمون وعكّار (لبنان)، وقد اتجه بعد ذلك إلى الأردن والحجاز فعمل في وظائف عسكرية وإدارية ثم التحق بثورة فلسطين عام 1936، وقاتل في عدة مواقع حتى استشهد في معركة «الخضر».
4) اللاطائفية: حيث اشترك أبناء جميع الطوائف والمذاهب في هذه الثورات: فالثورة التي قامت في جبل العرب كان إلى جانب قادتها وأفرادها من الدروز نفر كبير من المسلمين السنيين ومن المسيحيين أيضاً، ومن هؤلاء الأخيرين السيد عقلة القطامي، وهو زعيم مسيحيي الجبل، ويبين السجل الذهبي لشهداء الثورة السورية عدداً لا بأس به من أبناء الطائفة المسيحية (وإن كانت أسماؤهم في ظاهرها لا تدل على ذلك).
كما أن ثورة الشيخ صالح العلي لم تقتصر على العلويين أبناء المنطقة، وإنما شارك فيها نفر كبير من السنيين من أهالي منطقة الحفة وبابنّا، ومن أبناء مدينتي حمص وحماة الذين شكلوا فوجاً خاصاً بهم تقريباً حمل اسم «الفوج الملي» ، / كلمة «الملي» هنا هي تحريف للكلمة الفرنسية «MILICE» ومعناها «الأنصار» وليست مشتقة من كلمة «ملة» العربية/.
5) انتفاء الغرض الشخصي: حاول المستعمرون أن يعزوا الثورات السورية دوماً لأسباب شخصية، فهم يدعون مثلاً أن ثورة المنطقة الساحلية سببها معارضة السلطة الفرنسية لأطماع الشيخ صالح العلي في وضع يده على أراضي الإسماعيليين في القدموس. وثورة جبل الدروز التي قادها سلطان الأطرش ضد الفرنسيين عام 1925 سببها عدم موافقتهم على تعيينه حاكماً على جبل الدروز في مكان ابن عمه سليم الأطرش بعد وفاة هذا الأخير عام 1923. وثورة حماة التي قام بها فوزي القاوقجي، عندما كان ضابطاً في الحامية الفرنسية بهذه المدينة سنة 1925 سببها - كما يدعون - أن القيادة الفرنسية تجاوزت هذا الضابط في الترقية فثار عليها، وثورة الشهيد حسن الخراط سببها - كما يدعون أيضاً - قيام الفرنسيين بشنق ابنه في جريمة من جرائم القانون العام! وكل هذه ادعاءات لفقتها دائرة الاستخبارات العاملة في المفوضية العليا في بيروت للإساءة إلى هذه الثورات وإلى الأبطال الذين قادوها. ويمكن أن يُرد هنا بأن نفراً من هؤلاء الزعماء مثل ابراهيم هنانو وصالح العلي وفوزي القاوقجي... عرضت عليهم القيادة الفرنسية مناصب حكام في المناطق التي كانوا يقودون الثورة فيها مقابل إنهاء ثوراتهم، ولكنهم رفضوا هذه العروض الرخيصة بإباء.
6) الانتشار والفعالية: انتشرت الثورات السورية أفقياً ورأسياً في الوقت نفسه، أي أنها حققت سعة الانتشار والفعالية معاً، وللدلالة على هذه الميزة الفريدة في الثورات السورية يمكن ذكر أقوال منسوبة لاثنين من المفوضين السامين الفرنسيين الأوائل، وهما الجنرال (ويغان weygand) والجنرال (ساري SARRAIL).
* فقد قال الجنرال ويغان في حفل إزاحة الستار عن النصب التذكاري الذي أقيم في بيروت لقتلى جيش الشرق الفرنسي والبحرية الفرنسية في تموز 1924: «اضطرت فرنسا بعد الهدنة، بعد ما صمتت أصوات المدافع في أوروبا، لأن ترسل الأمهات الفرنسيات أولادهن إلى ساحات القتال في مرعش وأورفا، وفي ميسلون، بعد أن ظنن أن أبناءهن سيبقون لديهن بعد الحرب طويلاً، وأنتم الذين رأيتم جهود جيشنا وقد بلغ عدد قتلاه 9250 جندياً وضابطاً بإمكانكم أن تذكروا ذلك للأولاد والأحفاد».
* أما الجنرال ساراي وهو الذي أعطى الأمر بقصف دمشق في 18 تشرين الأول 1925، ومن قبلها مدينة حماة أوائل الشهر نفسه فقد قال مدافعاً عن موقفه هذا بعد سحبه من منصبه وعودته إلى فرنسا: «إن بعض الكتاب الفرنسيين يجهلون كل شيء عن سورية، فيجب ألا يلومونا إن اتخذنا هناك بعض الإجراءات العنيفة، يكفي أن يعرفوا أنه في عام 1922 نشبت في سورية خمس وثلاثون ثورة كان طعامها خمسة آلاف من أبناء فرنسا بين جندي وضابط».
وللتأكيد على فعالية الثورات السورية وسعة انتشارها يمكن الإشارة إلى أن مجموع المجاهدين الذين انخرطوا في الأعمال الثورية بين 1919 و1928 بلغ حوالي 35,000، وأن القيادة الفرنسية قد زجت ضد هذه الثورات خمسين ألفاً من الجند النظاميين، عدا القوات الرديفة والمساعدة.
7) عمومية الثورة وشمولها: لم تتوان أي منطقة من مناطق الوطن السوري عن القيام بواجبها في النضال المسلح ضد المستعمرين، من موقع «بينادور» في أعالي الجزيرة من جهة الشمال الشرقي إلى بلدة «مجدل شمس» في أقصى الجنوب الغربي، ومن مخفر «حارم» في الجهة الشمالية، حتى القوى المتاخمة للحدود الأردنية من جهة الجنوب، ثم من «طرطوس» غرباً وحتى بلدة «البوكمال» من جهة الشرق.
كما يمكن القول أن جميع فئات الشعب وطوائفه شاركت في الثورات السورية، فقد ضمت هذه الثورات أبناء العائلات العريقة(مثل سلطان الأطرش، نسيب البكري، نزيه المؤيد العظم، ابراهيم هنانو، الشيخ صالح العلي، فائق العسلي، شوكت العائدي، الأمير عز الدين الجزائري)، وأبناء العائلات الفقيرة والمكافحة (مثل حسن الخراط في دمشق، ونجيب عويد في حلب، ومصطفى الخليلي في حوران، وحمود الحمادي في دير الزور). وكذلك شارك في هذه الثورات نفر كبير من الضباط القدامى (مثل فوزي القاوقجي، سعيد العاص، ابراهيم الشغوري، مصطفى وصفي السمان، صبري فريد البديوي، زكي الحلبي، رمضان شلاش، خير الدين اللبابيدي، صادق الداغستاني، زكي الدروبي ..)، ورجال الدين (الشيخ محمد الأشمر، الشيخ محمد حجّار، الشيخ مصطفى الخليلي...)، والأطباء (عبد الرحمن الشهبندر، أمين الرويحة، ابراهيم عز الدين..)ولكن السواد العام في هذه الثوارات جميعاً كان من أبناء الريف، والعمال.
8) الخطة التي استخدمها الثوار في عملياتهم: اتسمت الخطط العسكرية للثوارت بطابع (حرب العصابات)، مع الاستفادة من الحواجز الطبيعية ما أمكن كالجبال (جبل العرب، جبل عامل، جبال عكار، جبال المنطقة الساحلية، جبل الزاوية، جبل الأقرع)، والأحراش (غوطة دمشق، بساتين حمص وحماه، غابة الفرلق)، والأنهار (نهر العاصي، نهر الفرات، نهر الخابور)، ولم يكن استخدام الثوار أسلوب «الكّر والفرّ»في عملياتهم يعني أنهم تجنبوا المجابهة مع العدو في جميع الأحوال، فقد خاضوا كثيراً من المعارك المجابهة في عملياته يعني أنهم تجنبوا المجابهة مع العدو في جميع الأحوال، فقد خاضو كثيراً من المعارك المجابهة عندما كانت طبيعة الأرض، وعددهم وعدتهم، وشروط المعركة الأخرى، تسمح لهم بذلك، وعموماً يمكن القول بأن عمليات الثوار تستهدف:
1) مهاجمة المراكز العسكرية الفرنسية المنعزلة ومحاصرتها لجذب قوات العدو إليها، وبذلك يتم تشتيت القوات العسكرية وتفكيكها.
2) مهاجمة أرتال العدو أثناء تحركها مع التركيز على المؤخرات لمنع وصول الذخائر والتموين إلى قطعات الجيش الفرنسي من جهة، ومحاولة الحصول على بعض الغنائم التي يمكن الاستفادة منها في دعم الثورة بالذخائر والاسلحة من جهة ثانية.
3) شل قوات العدو وإضعافها أينما وجدت، وهذا يسمى«حرب الإجهاد أو الاستنزاف Guerre d.Harcelemeut »
4) تجنب القتال الثابت إذا كانت قوة العدو متفوقة بشكل ظاهر، أو كانت طبيعة الأرض منبسطة أو خالية من التضاريس، وذلك انسجاماً مع استراتيجية حرب العصابات.
لقد كان الشعب العربي السوري واحداً من الشعوب التي دفعت أفدح الأثمان، وقدمت آلاف الضحايا، في سبيل الحرية والاستقلال، حيث حمل أبناء هذا الشعب السلاح ضد قوات الانتداب الفرنسي، منذ تشرين الثاني 1918 في المناطق الشمالية الغربية، والشمالية، والشرقية، والغربية، والجنوبية الغربية، وذلك قبل وقوع معركة ميسلون في 24 تموز 1920.